في زمنٍ يُصاغ فيه كل أسباب انعدام الحياة، يصبح الحفاظ على القطيع أمراً واجباً ومقدساً.
في زمنٍ يُصاغ فيه كل أسباب انعدام الحياة، يصبح الحفاظ على القطيع أمراً واجباً ومقدساً.
بقلم مروان سلطان – فلسطين 🇵🇸
30.10.2025
————————————————
الطبيعة الإنسانية تتعدد فيها وتختلف الرؤى وفلسفة الواقع، والمسارات في مواجهة التحديات. والرأي دائماً الذي يسود هو ما يمكن أن يراه أصحاب حسن البصيرة ومن أُوتوا الحكمة الذين يقودون الأمة والشعوب إلى برّ الأمان.
لقد تطورت الإدارات واتجهت إلى الحداثة من أجل تحقيق الأفضل. وعلى سبيل المثال لا الحصر، هناك مقارنة بين إدارتين دولتين تمتلك الأولى أقل بكثير من أعداد الأبقار في الدولة الأخرى. إنهما هولندا والسودان؛ الأولى تُعد من الدول المتقدمة وتحصل على مخرجات أفضل من الثانية بسبب نمط التفكير والحداثة في إدارة الموارد. فكما تحتاج المزارع إلى عقل يدير القطيع لا يرهقه، تحتاج الأوطان إلى قيادة تفكر بوحدة المصير لا بحسابات اللحظة.
تمتلك هولندا مليوني بقرة وتطعم منها العالم، بينما يمتلك السودان ثمانية ملايين بقرة وأهله فقراء، بل ويستورد الحليب والألبان من هولندا بقيمة مئة مليون دولار سنوياً. يحدث ذلك رغم أن مراعي السودان تساوي أربعة أضعاف مساحة هولندا. ومع ذلك، فإن ما تدرّه البقرة الهولندية من أموال (14 مليار دولار من تصدير الحليب فقط) يساوي نصف موازنة السودان تقريباً، والبالغة 24 مليار دولار.
وهنا تبرز المسألة نفسها في واقعنا الفلسطيني، حيث يختلف نمط التفكير بين من يسعى إلى إدارة يومية للأزمة، ومن ينظر إلى البقاء الوطني على المدى البعيد قطاع غزة اليوم يحتاج إلى رؤية سياسية وبصيرة الحكماء لإخراجه مما هو فيه إلى برّ الأمان، من أجل وحدة الجغرافيا والوطن بين شقّيه: غزة والضفة الغربية.
الطروحات التي تصدرت المشهد تقع بين رؤيتين:
الأولى تنحدر من محاولة التخلص من واقع الحرب،
والثانية تمثلها السلطة الفلسطينية وفق رؤية سياسية للحفاظ على شطري الوطن موحدين وإنهاء الانقسام إلى غير رجعة.
المرحلة افرزت فرض حلولاً بعضها من حيث الشكل عملية، ولو كانت مؤقتة، حتى يتم تسيير شؤون الناس في غزة بعيداً عن تعطّل المسار السياسي. لكنها في الجوهر قد تنزلق إلى تكريس الانقسام عبر بناء إدارة موازية، حتى لو بحسن نية أو من باب سدّ الفراغ. وقد يكون الاحتلال هو من يريد ذلك بسبب الهيمنة التي يفرضها بالقوة العسكرية، وتمثلها حركة حماس وبعض الفصائل الموالية لها. ومن جهة أخرى، قدمت السلطة الفلسطينية حلولاً ذات بعد سياسي بعيد المدى للحفاظ على وحدة الأرض والشعب، وهذا هو النوع الاستراتيجي المطلوب من اجل غزة ووحدة الوطن.
تتضمن رؤية السلطة الفلسطينية أن اللجنة يجب أن يديرها وزير من السلطة الفلسطينية، لضمان بقاء وحدة النظام السياسي بين شقّي الوطن.
في المقابل، تقدمت حركة حماس وبعض الفصائل الفلسطينية التي تعمل معها بأسماء لجنة محلية بهدف ملء الفراغ السياسي، ومن شخصيات يمكن لحماس التأثير فيها، في ما يشبه البوابة الخلفية للبقاء في إدارة غزة.
يمكن لنا أن نجد أنماطاً متعددة في التفكير وتقديم الحلول عند وضع تلك التصورات لتشكيل لجنة إدارة غزة.
فالفصائل الفلسطينية التي تعمل في إطار حركة حماس تبحث عن حلول سريعة لإدارة غزة تحت شعار “تسيير الأمور”، بينما ترى السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير أن أي تشكيل خارج مظلتها يُفكك الجسم الفلسطيني ويعيدنا إلى مربع الانقسام.
وهذا تماماً كما هو حال المزارع الذي يفكر في حليب الصباح دون تحديث أدواته، إذ قد يُرهق بقراته، وكذلك من يفكر في إدارة غزة دون رؤية وطنية يُرهق الجسد الفلسطيني.
تشكيل إدارة غزة قرار سياسي عميق الأثر.
الشرعية الفلسطينية هي الوحيدة القادرة على اتخاذ القرار المناسب الذي يحفظ لغزة والضفة الغربية وحدتهما الجيوسياسية ويُبعد عنهما شبح الانقسام، من خلال تكريس أو استدامة لجنة لغزة. وهذا ما جعل السلطة الفلسطينية تقدّم رؤيتها عبر تكليف وزير من السلطة لإدارة لجنة غزة.
المجتمع الفلسطيني، بعد أن أنهكته الأحداث، يتطلع إلى إطار وطني جامع يسير به إلى شاطئ الأمان ويُخرجه من العثرات التي دمرت غزة وأبادة شعبها. وهنا فإن عنواناً واحداً للشعب الفلسطيني ضمن رؤية وطنية وشرعية هو ما ينتظره المجتمع الدولي حتى يتم التعاون معه بعد الحرب من أجل البدء في الإعمار.
القضية ليست في “الطريقة” بل في “الغاية” من التفكير:
هل نريد فقط حلاً سريعاً، أم نريد بناء نظام إنتاج وطني متكامل يحافظ على وحدة القطيع؟
أم سنسقط في دهاليز السياسة الدولية والإسرائيلية؟
التفكير السريع قد يُنتج نتائج آنية، لكن التفكير الوطني المستنير هو الذي يحفظ وحدة الكيان الفلسطيني في المدى البعيد. وتبقى البصيرة الوطنية وحدها القادرة على حماية القطيع من الضياع.

تعليقات
إرسال تعليق