“شرعنة الاحتلال بالأساطير: نتنياهو في مأزق أمام الحقيقة، “الفلسطينيون أصل الأرض.
“شرعنة الاحتلال بالأساطير: نتنياهو في مأزق أمام الحقيقة، “الفلسطينيون أصل الأرض.
بقلم مروان سلطان. فلسطين 🇵🇸
26.9.2025
—————————————
خطابات نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل، بما تحتويه من معانٍ ودلالات يخاطب بها العالم المحلي والإقليمي والدولي، توحي بأنه في وضع مأزوم، وأنه لم يعد لديه ما يقوله للعالم بعد أن تم افتضاح السياسات الإسرائيلية، والأكاذيب المختلقة التي طالما ضلّل بها العالم. هناك شيء واحد ما زال يعمل، وهو الإمعان في قتل الشعب الفلسطيني، وهي سياسة إسرائيلية متجذّرة قام بأعبائها كل الحكومات المتعاقبة منذ نشأة إسرائيل. لكن هذه الحكومة أمعنت في قتل المدنيين بصورة لم تعد تنطلي على أحد في العالم.
نتنياهو الذي أراد انتصارًا يقضي فيه على ما يسمى “أعداء إسرائيل”، وعلى رأس أولوياته الشعب الفلسطيني، خلق صورة أمام الشعب الإسرائيلي بما سماه “الإرهاب الفلسطيني” و”الإرهاب العربي”، مما جعل الشعب الإسرائيلي يكمن وراءه للتخلص من تلك الأجسام التي تهدد وجوده. وقد عمل لسنوات طويلة على تسمين وتكييف الجهات صاحبة التهديد، ثم أراد أن يظهر بمظهر البطل أمام جمهوره في الداخل الإسرائيلي والمخلص لهم من الأخطار، فأشعل حروبًا دامية. كان هذا الجيش المدجج بكل ما هو حديث في الترسانة العسكرية الدولية يعمل في جبهة لوحده، هو بطلها، لتحقيق أهداف كبيرة من القتل والتهجير والتطهير العرقي، بذريعة “المختطفين” و”الدفاع عن النفس” و”الدفاع عن الوجود”. سياسة مريضة لا تنم إلا عن عقلية مختلة.
وهنا بعض من أقواله التي توضح طبيعة الأزمة التي يعيشها، والكذب الذي ما عاد ينطلي على أحد، وكان لا بد من إظهار الخبث واللؤم الذي يختبئ خلفه:
يقول نتنياهو موجهًا خطابه إلى جمهور من الشباب الألماني: “بينما تُعد إسرائيل دولة حديثة، لا أريد أن أُهمّش علاقة الشعب اليهودي التوراتية بهذه الأرض. كنا هنا منذ وقت ليس طويلًا، 4,000 عام فقط”، نافيا فكرة أن تكون إسرائيل دخيلًا استعماريًا بلا جذور. ويقول: “نحن لسنا البلجيكيين في الكونغو، ولا الفرنسيين في الجزائر، أو حتى الإسبان في المكسيك. نحن هنا منذ وقت طويل. وندرك أن هناك شعبًا آخر هنا، بالرغم من أنهم أتوا بعد آلاف السنين. لا زالوا يعيشون هنا وعلينا التعايش معهم”. كما قال إن جده الأكبر وصل فلسطين في أواخر القرن التاسع عشر، وجده وصل عام 1920.
جاء ذلك في لقاء مع مجموعة من الألمان تزور إسرائيل، ضمن برنامج علاقات عامة لتحسين صورة إسرائيل والترويج لأكاذيب “الديمقراطية الإسرائيلية”.
كثيرة هي المواضيع التي تستحق اثارتها والكتابة فيها، ولكن بعض المواضيع تحتّم أن يُسجَّل فيها القول أمام الخداع والرواية الزائفة والأكاذيب. وتلك الحادثة احد هذه المواضيع التي تستحق ان نقف عندها.
نتنياهو يحاول شرعنة الاحتلال عبر إسقاط رواية “أصلية” تتحدث عن 4 آلاف عام، متجاهلًا أن الشعب الفلسطيني موجود على هذه الأرض جيلًا بعد جيل، ولم يأتِ إليها كما يدّعي. هو يستخدم التاريخ الأسطوري ليبرر واقعًا استعماريًا دمويًا قائمًا اليوم. قوله “ندرك أن هناك شعبًا آخر” يعكس نبرة استعلاء على الشعب الفلسطيني، وكأنه يعترف بوجودهم على سبيل المجاملة لا كحق أصيل، ويضعهم في خانة الطارئين مجبرًا على استيعابهم.
الخطاب يعكس استغلالًا للنصوص الدينية اليهودية لتبرير سياسات معاصرة. تحويل الدين إلى أداة سياسية لإقصاء الآخرين انحراف خطير. ومن زاوية إيمانية، خطاب نتنياهو يتجاهل العدالة، وهي قيمة أساسية في كل الرسالات، بما فيها التوراة نفسها. كما يتهم الدول الأوروبية بأنها قامت وترعرعت على استعمار الشعوب والأوطان.
نتنياهو ذو الأصول البولندية، وأمه أمريكية، وزوجته سارة من يهود العراق، أي أن لا نتنياهو ولا حتى جد جده من أصول فلسطينية، ولا من اليهود الشرقيين الساميين. أما اليهود الذين عاشوا مع الفلسطينيين، فهم جزء أصيل من المجتمع الفلسطيني، ربطتهم تاريخيًا قبل النكبة عام 1948 علاقات وطيدة مع الشعب الفلسطيني المسلم والمسيحي، يشاركونهم الأفراح والأتراح والحياة الاجتماعية بتفاصيلها. أعدادهم قليلة، ولكنهم مثل أي إثنيات دينية أخرى كانوا جزءًا لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني.
اليهودية كدين منتشرة بين القوميات المختلفة في جميع أنحاء العالم، لكن الدين لا يمنح القومية. اليهودي البولندي، واليهودي الألماني، واليهودي البريطاني، واليهودي الأمريكي يجمعهم الدين، لكنهم قوميات وجنسيات مختلفة. وهنا يبرز السؤال المهم: هل يحق لأصحاب الديانات تأسيس دول تحت مظلة الدين؟ هل يحق لليهود الأمريكيين تأسيس دولة في أمريكا بصفتهم يهودًا؟ أو للمسلمين في أمريكا إنشاء دولة تحت مظلة الإسلام؟ أو لليهود البولنديين الادعاء بأحقية إنشاء دولة في بولندا؟ وكذلك في أي مكان من العالم؟ هذا افتراء واستغفال للعالم. إسرائيل “الدولة اليهودية” أُنشئت بقرار الدول الاستعمارية كذراع لها في منطقة الشرق الأوسط.
يمكن أن يشارك أصحاب الديانات المختلفة في إدارة شؤون بلادهم التي ينتمون إليها، ويكونون جزءًا من إداراتها، لكن يجمعهم إطار قومي واحد. فالمملكة المغربية اليوم فيها وزراء يهود في إدارة الدولة، ولا يوجد ما يمنع ذلك، لأنه حق أصيل لأبناء الوطن الواحد مهما اختلفت دياناتهم.
ما يميز فلسطين عن غيرها من مدن العالم أنها مدن تاريخية، كانت من أوائل المدن التي نشأت عبر التاريخ. أريحا احتُفل بإنشائها قبل عدة أعوام بما يربو على عشرة آلاف عام، والخليل مر على إنشائها ما يقارب سبعة آلاف عام، وكذلك عسقلان، وغزة، ويافا، وحيفا، واللد، والرملة، ويابوس “القدس”، وغيرها من المدن التي مر على وجودها أكثر من سبعة آلاف عام، مدن فلسطينية أصيلة سكنها الكنعانيون “الفلسطينيون الأصليون”.
النهار لا يحتاج الى دليل، الفلسطينيون هنا على أرض كنعان راسخون، لونهم من لون الأرض، ووجوههم من شمسها وهوائها ومائها وترابها، متجذرون كشجر الزيتون والتين والزعتر. الفلسطينيون ليسوا دخلاء على فلسطين، بل هم أصحاب الأرض، الشعب الأصيل لها، بخلاف ما يحاول نتنياهو الترويج له في خطابه بأنه يعترف بوجودهم كأمر لاحق.
لم يأتِ الفلسطينيون على ظهر دبابة أمريكية ولا بريطانية، لكن أنتم اليهود الغربيون أتيتم إلى فلسطين من كل أنحاء العالم على ظهر دبابة بريطانية، وبدعم بريطاني وفرنسي. فقامت دولة إسرائيل عام 1948. المقارنة مع الاستعمار الأوروبي في الجزائر أو المكسيك محاولة ماكرة لفصل إسرائيل عن “الاستعمار الكولونيالي”. يريد نتنياهو أن يرسل رسالة باتجاهين: إلى الأوروبيين والعرب: “لسنا مثل القوى الأوروبية التي احتلت أراضيكم”. وهذا رد أيضًا على اعتراف الدول الأوروبية بفلسطين، وكأنه يقول لهم أنتم المستعمرون، وإلى الفلسطينيين في محاولة لتخفيف شحنة الغضب العربي ضد إسرائيل. لكنه يغفل أن المشروع الصهيوني نفسه جاء بقرار استعماري غربي ودُعم بالقوة العسكرية والسياسية الغربية، وهو بذلك يزوّر التاريخ ويستفز الوعي العربي.
والحقيقة أنني كنت أود الرد على تلك الجمل المقيتة والمضللة في خطابه، فكان خطابه الذي ألقاه عبر منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة اليوم، قد أظهر حجم الأزمة التي يعيشها. وما زاد الطين بلة استطلاع الرأي الذي نشرته صحيفة “معاريف” الإسرائيلية بهبوط شعبيته إلى 48 مقعدًا في الكنيست مقابل زعيم المعارضة بينيت الذي ارتفعت أسهمه إلى 62 مقعدًا. ولعل هذا، وإن لم يُشر إلى تغير كبير في السياسات، إلا أنه يتجه باتجاه اليمين “المعتدل”.
المجتمع الدولي ما زال أمامه جهد كبير يعمل عليه من أجل التغيير الحقيقي في السياسة الإسرائيلية، لكن جملة الاندفاع الدولي والإقليمي والمحلي كانت وراء بعض التحولات التي قد تطرأ على تغيير تلك السياسات.

تعليقات
إرسال تعليق