غزة بين الدمار والصمود

 


✍️ النسخة المحررة - مقدمة الكتاب:


غزة بين الدمار والصمود

الكاتب: مروان سلطان – فلسطين







مقدمة الكتاب


في غزة، البقاء معجزة. أن تظل حيًّا في هذه الرقعة الصغيرة المحاصرة بحرًا وبرًّا وجوًّا، ليس أمرًا طبيعيًا، بل شكل من أشكال المقاومة اليومية. الدمار ليس حادثًا عارضًا هنا، بل مكوّن دائم في تفاصيل الحياة، وكأن المدينة أعادت تعريف معنى العيش وسط الأنقاض، لا بوهن، بل بإصرار يشبه الحجر صلابةً.


البيوت في غزة ليست جدرانًا إسمنتية، بل خزائن لذاكرة جمعية. كل طوبة تحكي قصة: زفاف، ميلاد، ليلة تحت القصف. وعندما تُسوّى هذه البيوت بالأرض، لا يُمحى أصحابها من الذاكرة، بل يتحولون إلى رواة خفيين لحكاية صمود لا تنتهي. تُبنى البيوت من جديد، ولو بمواد رديئة، ولو من دون سقوف، فالفلسطيني لا ينتظر إذنًا ليعيش.


يعيش الغزّيون في ظروف توصف في أي مكان آخر بأنها غير صالحة للعيش. لكنهم يصنعون من المحنة إمكانية. يبدعون في التكيّف: يصنعون الأفران من الطين، يحوّلون الألواح الشمسية إلى مصدر طاقة رئيس، ويجعلون من الفضاء الرقمي نافذتهم على العالم. لا مطار لغزة، لكن أبناءها يطيرون بأحلامهم، يدرّسون، يبدعون، ويجيدون السخرية من الموت.


كل حرب على غزة تترك جراحًا، لا في الأجساد فقط، بل في الوعي والمعنى. الطفل الذي رأى بيته يُقصف لا يعود كما كان. لكنه لا يغرق في الحقد، بل يكتسب وعيًا مبكرًا، يفهم السياسة قبل أن يُتقن الهجاء، ويحفظ أسماء العواصم التي تواطأت عليه قبل أن يحفظ جدول الضرب. هذا الطفل، إذا عاش، يصبح شابًا لا يعرف الاستسلام، لأن الهزيمة الوحيدة التي لم يعهدها الغزيّون هي الاستسلام لأهداف الاحتلال.


في غزة، تقف الحياة على الحدّ بين الذاكرة والحلم. ذاكرة مجازر، وحلم يرفض التنازل. كثيرون يسألون: لماذا لا يرحلون؟ لكن الرحيل ليس خيارًا. ليس لأنهم يفتقرون إلى التذاكر، بل لأنهم يملكون انتماءً أعمق من الجغرافيا. الانتماء هنا لفكرة: أن فلسطين لا تُغادر، حتى لو بقيت رقعة ضئيلة تقاوم وحدها.


الصمود في غزة ليس موقفًا عابرًا، بل نمط حياة. هو قرار متجدد بأن لا تفرغ الهزائم الإنسان من إنسانيته، بل أن تشحنه بإرادة العيش. هنا، الصمود لا يُبنى على سلاح، بل على تفاصيل الحياة اليومية، على أم تروي لأطفالها حكايات البطولة بدل الخوف، وأب يُرمم غرفة مدمّرة ليكمل أطفاله دراستهم وسط الخراب.


وحين تنتهي الحرب — إذا انتهت — لا يبدأ السلام، بل يبدأ الترميم. ترميم الحجر، وترميم المعنى. لأن الحرب لا تهدم فقط، بل تحاول سلب الوجدان. وفي غزة، الوجدان أصلب من الحديد.


غزة ليست مجرد جغرافيا منكوبة. إنها مرآة لزمن عربي منكسر، وفضاء يعيد تعريف الكرامة. في عتمة الحصار، يشع نور خافت لا يُرى إلا لمن ينظر بعين القلب: نور الصمود، الذي لا تصنعه المؤسسات، بل تبنيه امرأة تخبز العيش في مطبخ مهدوم، أو طفل يزرع وردة في حديقة التهمتها القنابل.


غزة، رغم الدمار، ليست قصة حزن. بل شهادة حيّة على أن العدالة لا تُقاس بحجم الخسارة، بل بقدرة الإنسان على الوقوف مجددًا.



غزة بين الدمار والصمود

الكاتب: مروان سلطان – فلسطين

 


مقدمة الكتاب

 

في غزة، البقاء معجزة. أن تظل حيًّا في هذه الرقعة الصغيرة المحاصرة بحرًا وبرًّا وجوًّا، ليس أمرًا طبيعيًا، بل شكل من أشكال المقاومة اليومية. الدمار ليس حادثًا عارضًا هنا، بل مكوّن دائم في تفاصيل الحياة، وكأن المدينة أعادت تعريف معنى العيش وسط الأنقاض، لا بوهن، بل بإصرار يشبه الحجر صلابةً.

 

البيوت في غزة ليست جدرانًا إسمنتية، بل خزائن لذاكرة جمعية. كل طوبة تحكي قصة: زفاف، ميلاد، ليلة تحت القصف. وعندما تُسوّى هذه البيوت بالأرض، لا يُمحى أصحابها من الذاكرة، بل يتحولون إلى رواة خفيين لحكاية صمود لا تنتهي. تُبنى البيوت من جديد، ولو بمواد رديئة، ولو من دون سقوف، فالفلسطيني لا ينتظر إذنًا ليعيش.

 

يعيش الغزّيون في ظروف توصف في أي مكان آخر بأنها غير صالحة للعيش. لكنهم يصنعون من المحنة إمكانية. يبدعون في التكيّف: يصنعون الأفران من الطين، يحوّلون الألواح الشمسية إلى مصدر طاقة رئيس، ويجعلون من الفضاء الرقمي نافذتهم على العالم. لا مطار لغزة، لكن أبناءها يطيرون بأحلامهم، يدرّسون، يبدعون، ويجيدون السخرية من الموت.

 

كل حرب على غزة تترك جراحًا، لا في الأجساد فقط، بل في الوعي والمعنى. الطفل الذي رأى بيته يُقصف لا يعود كما كان. لكنه لا يغرق في الحقد، بل يكتسب وعيًا مبكرًا، يفهم السياسة قبل أن يُتقن الهجاء، ويحفظ أسماء العواصم التي تواطأت عليه قبل أن يحفظ جدول الضرب. هذا الطفل، إذا عاش، يصبح شابًا لا يعرف الاستسلام، لأن الهزيمة الوحيدة التي لم يعهدها الغزيّون هي الاستسلام لأهداف الاحتلال.

 

في غزة، تقف الحياة على الحدّ بين الذاكرة والحلم. ذاكرة مجازر، وحلم يرفض التنازل. كثيرون يسألون: لماذا لا يرحلون؟ لكن الرحيل ليس خيارًا. ليس لأنهم يفتقرون إلى التذاكر، بل لأنهم يملكون انتماءً أعمق من الجغرافيا. الانتماء هنا لفكرة: أن فلسطين لا تُغادر، حتى لو بقيت رقعة ضئيلة تقاوم وحدها.

 

الصمود في غزة ليس موقفًا عابرًا، بل نمط حياة. هو قرار متجدد بأن لا تفرغ الهزائم الإنسان من إنسانيته، بل أن تشحنه بإرادة العيش. هنا، الصمود لا يُبنى على سلاح، بل على تفاصيل الحياة اليومية، على أم تروي لأطفالها حكايات البطولة بدل الخوف، وأب يُرمم غرفة مدمّرة ليكمل أطفاله دراستهم وسط الخراب.

 

وحين تنتهي الحرب — إذا انتهت — لا يبدأ السلام، بل يبدأ الترميم. ترميم الحجر، وترميم المعنى. لأن الحرب لا تهدم فقط، بل تحاول سلب الوجدان. وفي غزة، الوجدان أصلب من الحديد.

 

غزة ليست مجرد جغرافيا منكوبة. إنها مرآة لزمن عربي منكسر، وفضاء يعيد تعريف الكرامة. في عتمة الحصار، يشع نور خافت لا يُرى إلا لمن ينظر بعين القلب: نور الصمود، الذي لا تصنعه المؤسسات، بل تبنيه امرأة تخبز العيش في مطبخ مهدوم، أو طفل يزرع وردة في حديقة التهمتها القنابل.  غزة، رغم الدمار، ليست قصة حزن. بل شهادة حيّة على أن العدالة لا تُقاس بحجم الخسارة، بل بقدرة الإنسان على الوقوف مجدد.

منذ أن وطئ الاحتلال الإسرائيلي ما تبقى من فلسطين على أرض وحدود عام 1967، بدأت معه معركة الصمود المفتوحة. واجه الشعب الفلسطيني الاحتلال، دافع عن أرضه ووجوده، ورفض الانصياع لكل محاولات الاقتلاع والتهجير. رغم القتل والاعتقال والهدم والملاحقة، ظل الفلسطيني صامدًا، يتشبث بحقه على هذه الأرض.

 

اعتمد الاحتلال في سيطرته على الفلسطينيين على مزيج من القوانين الاستعمارية القديمة، بين البريطاني والأردني، ثم الإسرائيلي، منتقيًا من بينها ما يخدم مخططاته الاستيطانية والتهويدية. لم يكن الهدف مجرد احتلال، بل قرصنة منظمة للأرض، ومصادرة متواصلة للمجال الحيوي الفلسطيني.

 

منذ مجيء إدارة ترامب إلى البيت الأبيض، تصاعدت الدعوات العلنية لتهجير الفلسطينيين، وكأنهم مجرد "حقيبة سفر جاهزة للترحيل". تم الترويج لهذا الحلم الصهيوني في المحافل السياسية وكأن التهجير هو الحل الجاهز للصراع. لكن ذلك لم ولن يحقق استقرارًا للمنطقة، لا من الناحية الأمنية ولا السياسية، لأن استقرار أي منطقة لا يقوم على نفي شعبها.

 

على هذه الأرض دُفن الأجداد، وارتقى الشهداء، وأينعت الكروم والزيتون والبرتقال. هنا سقط عبد القادر الحسيني دفاعًا عن القدس، وهنا قاتل الشهداء العرب من تركيا والعراق والأردن ومصر واليمن والسعودية وليبيا. هنا استشهد ياسر عرفات، الحائز على جائزة نوبل للسلام، وارتقى الوزير زياد أبو عين دفاعًا عن الأرض. هنا وقف الوزير عساف يحمل المعونات على ظهره إلى أهالي الخان الأحمر، وهناك آلاف القصص الأخرى التي تُروى عن صمود لا ينكسر.

 

عمل الاحتلال على دفع سكان المناطق المصنفة (ج) نحو مراكز المدن الفلسطينية الكبرى، تمهيدًا لضم تلك المناطق والمستوطنات المحيطة بها، مع تفريغ أصحابها الشرعيين منها. اتبعت إسرائيل سياسة "كرة الثلج" في التوسع، حتى وصل الأمر إلى القتل العلني، كما حدث مع الشيخ سليمان الهذالين، الذي ارتقى بعد أن دهسه جيب عسكري إسرائيلي، في واحدة من أكثر مشاهد القمع فظاعة.

 

يعيش المزارعون والرعاة في برية فلسطين مأساة يومية. الاحتلال لا يعترف بوجودهم الطبيعي على الأرض، ولا يسمح لهم بالبناء أو التوسعة. كل خيمة تُنصب تُهدم، وكل دعوى تُقدم تُعرقل، بينما تنمو المستوطنات كالسرطان في محيطهم. لم يسلم الزرع، ولا الماء، ولا المواشي من عبث المستوطنين: يسرقون الأغنام، يسمّمون الآبار، يقتلعون الأشجار، ويضيّقون على حياة الفلسطينيين حتى في لقمة عيشهم.

 

ورغم كل ذلك، ظل الصمود الفلسطيني أقرب إلى الأسطورة. بعض من هذه المعاناة نقلته الكاميرات، وبعضها رواه شهود المقاومة الشعبية، لكن الكثير بقي طي النسيان، خاصة في المناطق الرعوية التي لا تصل إليها الأضواء. كانت السلطة الفلسطينية تسعى، قدر المستطاع، لتقديم الدعم عبر التعليم والصحة وخدمات تعزيز الصمود. لكن أمام آلة الاحتلال، كل ذلك يبدو هشًا، فالهجمات الإسرائيلية قادرة على إيقاف كل شيء في لحظة.

 

إسرائيل تمتلك أدوات الضغط، وهي أقوى بكثير من الإجراءات الشكلية التي قد تفرضها دول الطوق. عندما قررت فتح مطار "رامون" جنوب فلسطين كبديل عن مطار الملكة علياء، من استطاع أن يردعها؟ عندما فكّرت باستخدام موانئها في تهجير الفلسطينيين، من أوقفها؟ السؤال الحقيقي هو: لماذا دمّرت غزة؟ ولماذا استهدفت مخيمات اللاجئين في شمال الضفة الغربية؟ الجواب يكمن في مشروع تهجيري ممنهج، وقرار سياسي بطمس الوجود الفلسطيني، مهما كان الثمن.

ن.


 الفصل الأول – الجزء الثاني


لا يمكن الحديث عن تهديد الوجود الفلسطيني دون الإشارة إلى الاستيطان. المستوطنات لا تنمو وحدها، بل تُزرع بالعنف، وتُروى بسياسات ممنهجة لاقتلاع الفلسطيني من أرضه. هؤلاء المستوطنون ليسوا مجرد أفراد، بل أدوات وذراع حكومي لتنفيذ المشروع الاستعماري، يعملون على مضايقة السكان في تفاصيل حياتهم: يسرقون الأغنام، يدمرون الآبار، يقطعون الطرق، ويزرعون الخوف.

كثير من هذه الممارسات تبقى بعيدة عن عدسات الكاميرات، لكنها محفورة في ذاكرة الناس. في المناطق الرعوية، الصراع هو صراع وجود. يُمنع الفلسطيني من نصب خيمة، أو بناء مأوى، أو ممارسة حياة طبيعية. تُقدَّم الدعاوى للمحاكم الإسرائيلية، فلا تجد سوى التسويف، بينما يمنح المستوطن الترخيص فورًا إذا أراد التوسع.

ورغم الجهود التي تبذلها السلطة الفلسطينية وبعض المؤسسات الدولية لتقديم الدعم في التعليم والصحة وتعزيز الصمود، فإن هذه الجهود تظل محدودة، وتتعطل سريعًا أمام عنف الاحتلال وهجمات المستوطنين.

الحصار لا يقتصر على جغرافيا غزة، بل يمتد إلى أدوات الحياة اليومية في الضفة أيضًا. وحتى عندما تحاول دول الجوار تقديم تسهيلات، تكون إسرائيل قد سبقتها بخطوة، بفتح مطارات بديلة، أو فرض سياسات تهجير مدروسة، تستغل فيها كل ظرف إقليمي لصالح مشروعها.

ما يجري في غزة ليس مجرد حرب، بل قرار سياسي بتنفيذ التهجير الجماعي، باستخدام كل أدوات الإبادة: القصف، التجويع، التدمير، العزل. صحيح أن الفلسطيني صمد، وقدم الشهداء، لكنه يواجه منظومة احتلال تمتلك أدوات ضغط هائلة تتجاوز قدرات أي مجتمع محاصر.

الأمة العربية والإسلامية تملك أدوات ضغط كبيرة، لكن إرادتها السياسية ما زالت دون المستوى. مصالح العالم ترتبط بهذه المنطقة، ومع ذلك تبقى المبادرات خجولة. السعودية اليوم محور التوازنات الدولية، وعلى أرضها تُعقد القمم وتُناقش نهايات الحروب. وهذه لحظة لا تحتمل التردد. الموقف المطلوب واضح: لا للتهجير، لا للاحتلال، لا لتوسع المشروع الصهيوني على حساب الأرض العربية.

إسرائيل لا تتوسع لأنها مضطرة، بل لأنها تنفذ مشروعًا أيديولوجيًا توسعيًا. فلسطين التاريخية خُسرت بنسبة 78%، وما تبقى منها لا يكفي لبناء دولة ذات سيادة. بإمكان إسرائيل أن تبني ناطحات سحاب إن أرادت التوسع، لكنها اختارت التمدد على الأرض، وعلى حساب الناس. هذا هو جوهر الاستعمار الجديد


الفصل الأول – الجزء الثالث


ليس بالفزعات تُواجه مشاريع التهجير. حين ظهرت المخاطر على السطح، سارع الجميع إلى إعلان المواقف، لكن ذلك لا يكفي. نحن بحاجة إلى خطة شاملة، لا تقتصر على الفلسطينيين وحدهم، بل تتبناها الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، ضمن رؤية متكاملة لتعزيز صمود الشعب الفلسطيني سياسيًا واقتصاديًا.

الفلسطيني قدّم أغلى ما يملك، وظل ثابتًا على أرضه. واليوم، تقع المسؤولية على الدول العربية والإسلامية لتتحرك بما يتجاوز الخطابات، دفاعًا عن الأمن القومي العربي الذي يتعرض للتهديد الحقيقي.

ما يدفعني إلى الكتابة من جديد هو هذا الكم الهائل من الألم الذي يفيض من حياة الناس. معاناتهم، جوعهم، مرضهم، وتقلّبات الزمن عليهم. لا أملك سلاحًا غير الكلمة، وهي أضعف الإيمان، لكنها الموقف الذي لا يُمكن التنازل عنه في زمن عزّ فيه الإنصاف، وغاب فيه العدل.

شعبنا الفلسطيني، في أطفاله وشيوخه ونسائه، كُتب عليه أن يذوق العذاب، ويُهجَّر، ويُذبح بدم بارد. منذ النكبة الأولى عام 1948، والتهجير لم يتوقف. من العدوان الثلاثي في 1956، إلى نكسة 1967، إلى الاجتياحات المتكررة، وصولًا إلى ما نشهده اليوم في غزة والضفة من أبشع جرائم الحرب.

الحرب الأخيرة لم تميز بين أحد. الأطفال والنساء والشيوخ، أحياء بكاملها، دور عبادة، مستشفيات، جامعات، مؤسسات مجتمع مدني، كلها أصبحت أهدافًا مشروعة في نظر آلة القتل الإسرائيلية. لم يعد هناك شيء يُحترم في هذه الحرب: لا براءة، ولا أمومة، ولا قيم إنسانية.

فقدان الآباء والأمهات يعني حرمان الأطفال من الحنان، ومن الأمان. ومن فقد أبناءه، حُرم من السعادة. هذه الحرب لم تكتفِ بالقتل، بل اغتالت المعنى نفسه. ماذا يعني أن تُنقل الأمهات على عربات تجرّها الدواب لأن الوقود نفد؟ أن يُقطع الأوكسجين عن الخدّج لأن الكهرباء مقطوعة؟ أن يُطلب من الناس دفن أحبتهم بأيديهم في ساحات المدارس والمساجد؟

ما جرى هو جريمة حرب مكتملة الأركان. ذكرى النكبة الأولى باتت حاضرة من جديد، وكأن الزمن يدور في حلقة مفرغة من الألم. أسماء النكبات تتغيّر، لكن المعاناة واحدة. 1956، 1967، 2007، 2023… محطات في قطار العذاب الفلسطيني، حيث تُسكب الدماء، وتُهدم البيوت، ويُشرّد الناس مرارًا وتكرارًا.

وقد تكون ألف سنة من الحزن قليلة على غزة، لكنها لا تعني شيئًا إن لم تُترجم إلى فعل سياسي يعيد الاعتبار للكرامة. من استُشهدوا لهم أسماء، وأحلام، وأحباب. بعضهم معروف، وكثير منهم طواه الدمار دون أن يُعرف. المجد لذكراهم، والخلود لقضيتهم



 الفصل الأول – الجزء الرابع


شعب الخيام لم ينسَ. منذ خمسة وسبعين عامًا، غادروا الديار والأحباب، وشجر البرتقال والزيتون. هل نسيوا؟ هل نسوا فراق الأحبة؟ لقد مزجوا الصبر بالكمد، لعل الفرج يأتي. واليوم تجد أبناء غزة في الخليل ونابلس وبيت لحم وطولكرم، في بيروت ودمشق وعمان. غزة كانت وما زالت عنوانًا لنكبة متجددة. وكم من النزوح حدث، وكم من الدمار، لكن هذه المرة مست القلوب، وقطّعت النبض.

الناس لم يعودوا يعرفون إلى أين المفر. فقد تاهت الطرق، وضاعت الخرائط، ولم يعد أحد يعرف الطريق إلى الطريق. من نجا من الموت، يواجه سؤالًا لا إجابة له: أين الملاذ؟ بل أين البداية؟ كل الطرق تفضي إلى جحيم آخر.

الحزن هنا ليس على الحجارة وحدها، بل على الإنسان الذي أُبيد، وعلى المستقبل الذي يُراد له أن يُدفن. بين من قضوا أساتذة، أطباء، مهندسون، معلمون، عابدون، أتقياء، أنقياء. لم يُهدم البيت فقط، بل هُدم الإنسان. هذه ليست حربًا على المباني، بل على المعنى، على الذاكرة، على الحلم.

الكتابة عن كل هذا ليست كافية. الكلمات تتكسّر أمام هول ما جرى. لكن لا بد أن نقول، لأن الصمت تواطؤ، ولأن من نُكبوا يستحقون أن نخلّدهم. لا يجب أن ننسى، حتى لو مرّ ألف عام. لا لأننا نحمل حقدًا، بل لأننا نحمل أمانة. أمانة التذكير، أمانة الشهادة.

ما يجري اليوم هو تكرار لنكبة 1948، لكن بصورة أشد. الدماء نفسها، الدمار نفسه، والألم نفسه. لكن الجديد أن كل ذلك يحدث على مرأى العالم، دون أن يحرّك أحد ساكنًا. عشرات الآلاف من الشهداء، مئات الآلاف من المهجّرين، وأكثر من عشرين ألف يتيم. والإحصاء هنا لا يروي الحقيقة، بل يفضح العجز.

أقل حكاية من هذه الحكايات تكفي لتمزيق القلب. من فقد ابنه، أو أمه، أو أخته، يعرف أن الحرف أضعف من الوجع. والأب الذي بقي حيًا يتمنى لو قضى معهم. والأم التي تبحث عن ابنها بين ركام المستشفيات تقول للطبيب: “قل لي إن هذا حلم”. كيف لهذه الطفلة أن تنسى؟ وكيف لها أن تعيش بعد أن خسرت كل شيء؟


 الفصل الأول – الجزء الخامس


أي حديث عن الخوف أو الصبر يبدو ضئيلًا أمام ما عاشه أطفال غزة تحت الأنقاض. كيف نُحدّثهم عن الأمل، وهم عاشوا لحظات موتٍ حقيقي تحت ركام منازلهم؟ أي ظلم هذا الذي يُرتكب بحق الطفولة في القرن الحادي والعشرين، فيما مؤسسات العالم تنشغل بالبروتوكولات ولا تفعل شيئًا لحمايتهم؟

لقد سقطت كل الأقنعة، وانكشف زيف الادعاءات. لم يعد للحياد معنى، ولا للقانون قيمة. في غزة، سُحقت الطفولة، وتحوّلت مدارس الأونروا إلى مقابر مؤقتة، والمستشفيات إلى أنقاض. من نجا من القصف، لم ينجُ من الجوع أو العطش أو المرض.

الفلسطينيون لا يطلبون فضلًا، بل يطالبون بحقٍّ واضح. لهم على هذه الأمة وعلى هذا العالم حقّ الرعاية، وحقّ الحماية، لأنهم لم يكونوا يومًا عبئًا، بل ساهموا في بناء مجتمعات الشتات، وساهموا في نهضة العديد من الدول العربية. واليوم، آن أوان رد الجميل، لا بالشفقة، بل بالواجب.

ما جرى في غزة كان كارثة إنسانية، لكنه أيضًا عار أخلاقي على المجتمع الدولي. لم تُفتح المعابر إلا خوفًا من تفشي الأمراض بين جنود الاحتلال بسبب الجثث في الشوارع. ما تم إدخاله إلى غزة لم يكن غذاءً، بل أكياسًا لجثث جديدة، وكأن الرسالة الوحيدة هي: “استعدوا للموت”.

هل يُعقل أن يحدث كل هذا في القرن الواحد والعشرين؟ هل يُعقل أن يُمحى حيّ كامل من الوجود خلال دقائق، وأن يُباد شعب أمام شاشات العالم؟ الطائرات الحديثة التي تُسقط القنابل بدقة متناهية، استخدمت في قصف بيوتٍ آمنة، ومساجد، ومدارس، دون تمييز أو رحمة.

في السابق، كان يُستشهد مواطند أو اثنان في اليوم. اليوم، يُقتل المئات في يوم واحد، جلّهم من المدنيين. لم يبقَ للإنسانية معنى، ولا للقانون الدولي مكان

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الرئيس ابو مازن كال الصاع صاعين لنتنياهو في محاولة منعه زيارة سوريا ، والزيارة تمت وفق الوقت والاهداف المرسومة. بقلم مروان سلطان. فلسطين 🇵🇸

مؤتمر الدوحة خنجر مسموم في خاصرة الشرعية الفلسطينية وانقلاب اسود في تاريخ المشاركين مروان سلطان. فلسطين 🇵🇸.

ليس تبريرا ولكن حزنا وكمدا على غزة واهلها كانت كلمات الرئيس عباس الى حماس بفلم الكاتب مروان سلطان. فلسطين 🇵🇸